د- نزول القرآن على سبعة أحرف:
لقد كان للعرب لهجات شتى، فكل قبيلة لها من اللحن في كثير من الكلمات ما ليس للآخرين، إلا أنَّ قريشاً من بين العرب قد تهيَّأت لها عوامل جعلت للغتها الصدارة بين فروع العربية الأخرى، فكان طبيعياً أن يتنزَّل القرآن بلغة قريش تأليفاً للعرب وتحقيقاً لإعجاز القرآن.
أخرج أبو داود من طريق كعب الأنصاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى ابن مسعود رضي الله عنه: " إنَّ القرآن نزل بلسان قريش، فأقرِىء الناس بلغة قري…" .
لقد كان واضحاً لكبار الصحابة رضوان الله عليهم أنَّ القرآن إنما نزل بلسان قريش قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك حكم جليلة أهمها:
1- أنَّ قريشاً هم قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جرت سُنَّة الله في رسله أن يبعثهم بألسنة أقوامهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ...} [إبراهيم: 4].
2- أنه عليه الصلاة والسلام قد أُمِرَ بتبليغهم الرسالة أولاً، قال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]. فلا بد من مخاطبتهم بما يألفون ويعرفون لِيَستبين لهم أمر دينهم. فأنزل الله القرآن بلغتهم و أساليبهم التي يفضلونها في مستوى رفيع من البلاغة لا يجارى.
3- إنَّ لغة قريش هي أفصح اللغات العربية وهي تشمل معظم هذه اللغات لاختلاط قريش بالقبائل و لاحتوائها الجَيِّد الفصيح من لغاتها.
و إذا كان العرب تتفاوت لهجاتهم في المعنى الواحد بوجه من وجوه التفاوت، فكان لا بد للقرآن أن يكون مستجمعاً وشاملاً لهذه اللهجات مما ييسر على العرب القراءة والحفظ والفهم. ونصوص السنّة قد تواترت بأحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " سمعتُ هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاستمعتُ لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يُقرِئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكدتُ أساوره في الصلاة. فتصبَّرتُ حتى سلَّم فلبَّبته بردائه فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ، قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلتُ له كذبتَ، أقرأنيها على غير ما قرأتَ. فانطلقتُ به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلتُ: إني سمعتُ هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تُقرِئنيها. فقال: أرسِلهُ. اقرأ يا هشام، فقرا القراءة التي سمعتُه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك أُنزِلَت. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا عمر. فقرأتُ التي أقرأني فقال: كذلك أُنزِلَت. إنَّ هذا القرآن أُنزِلَ على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسَّر منه "، رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وأحمد وابن جرير.
قوله: " فكدتُ اساوِرُهُ في الصلاة ": أي أُواثِبُه وأقاتِلُهُ ، وقال النووي: أي أُعاجِلُهُ وأُواثِبُهُ.
قوله: " فلبَّبتُهُ بردائه ": أي جمعتُ عليه ثوبه عند لُبَّتِهِ وجررته به لئلا يتفلت مني. واللبة: الهُزمة التي فوق الصدر، وفيها تُنحَر الإبل.
قوله: " كذَبتَ ": أي أخطأتَ، لأن أهل الحجاز يُطلقون الكذب في موضع الخطأ.
وسبب تخطئة عمر كان بسبب رسوخ قدمه في الإسلام بخلاف هشام فإنه كان قريب العهد بالإسلام فخشي عمر من ذلك أن لا يكون أتقن القراءة، بخلاف نفسه فإنه أتقن ما سمع، وكان سبب اختلاف قراءتهما أن عمر حفظ هذه السورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قديماً، ثم لم يسمع ما أُنزِلَ فيها بخلاف ما حفظه وشاهده ولأن النبي صلى الله عليه و سلم اقرأ هشاماً على ما نزل أخيراً فنشأ اختلافهما من ذلك. ومبادرة عمر للإنكار محمولة على أنه لم يكن سمع حديث أُنزِلَ القرآن على سبعة أحرف إلا في هذه الحادثة.